سورة التوبة - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاءُ} وهم الذين أسلموا منهم {والله غَفُورٌ} بستر كفر العدو بالإسلام {رَّحِيمٌ} بنصر الولي بعد الانهزام. {ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} أي ذوو نجس وهو مصدر، يقال نجس نجساً وقذر قذراً لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في وصفهم بها {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} فلا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} وهو عام تسع من الهجرة حين أمّر أبو بكر رضي الله عنه على الموسم، ويكون المراد من نهي القربان النهي عن الحج والعمرة وهو مذهبنا ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندنا، وعند الشافعي رحمه الله يمنعون من المسجد الحرام خاصة وعند مالك يمنعون منه ومن غيره. وقيل: نهى المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي فقراً بسبب منع المشركين من الحج وما كان لكم في قدومهم عليكم من الإرفاق والمكاسب {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} من الغنائم أو المطر والنبات أو من متاجر حجيج الإسلام {إِن شَاءَ} هو تعليم لتعليق الأمور بمشيئة الله تعالى لتنقطع الآمال إليه {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بأحوالكم {حَكِيمٌ} في تحقيق آمالكم، أو عليم بمصالح العباد حكيم فيما حكم وأراد ونزل في أهل الكتاب {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} لأن اليهود مثنيّة والنصارى مثلثة {وَلاَ باليوم الأخر} لأنهم فيه على خلاف ما يجب حيث يزعمون أن لا أكل في الجنة ولا شرب {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة، أو لا يعملون بما في التوراة والإنجيل {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق} ولا يعتقدون دين الإسلام الذي هو الحق. يقال: فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} بيان للذين قبله، وأما المجوس فملحقون بأهل الكتاب في قبول الجزية، وكذا الترك والهنود وغيرهما بخلاف مشركي العرب لما رُوي الزهري أن النبي عليه السلام صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب {حتى يُعْطُواْ الجزية} إلى أن يقبلوها، وسميت جزية لأنه مما يجب على أهلها أن يجزوه أي يقضوه، أو هي جزاء على الكفر على التحميل في تذليل {عَن يَدٍ} أي عن يدٍ مواتية غير ممتنعة ولذا قالوا: أعطى بيده إذا انقاد، وقالوا: نزع يده عن الطاعة. أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة لا مبعوثاً على يدٍ أحد ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ {وَهُمْ صاغرون} أي تؤخذ منهم على الصغار والذل وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم، والمتسلم جالس، وأن يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيبه ويقال له أدِّ الجزية يا ذمي وإن كان يؤديها ويزخ في قفاه وتسقط بالإسلام.
{وَقَالَتِ اليهود} كلهم أو بعضهم {عُزَيْرٌ ابن الله} مبتدأ وخبر كقوله {المسيح ابن الله} وعزير اسم أعجمي، ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه، ومن نون. وهم عاصم وعلي فقد جعله عربياً {وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بأفواههم} أي قول لا يعضده برهان ولا يستند إلى بيان، فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ عن معنى تحته كالألفاظ المهملة {يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} لا بد فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً يعني أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم، يعني أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث، أو الضمير للنصارى أي يضاهي قولهم {المسيح ابن الله} قول اليهود {عُزَيْرٌ ابن الله} لأنهم أقدم منهم {يضاهئون} عاصم. وأصل المضاهاة المشابهة، والأكثر ترك الهمز واشتقاقه من قولهم (امرأة ضهياء) وهي التي أشبهت الرجال بأنها لا تحيض كذا قاله الزجاج، {قاتلهم الله} أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا {أنى يُؤْفَكُونَ} كيف يصرفون عن الحق بعد قيام البرهان.
{اتخذوا} أي أهل الكتاب {أحبارهم} علماءهم {ورهبانهم} نساكهم {أَرْبَابًا} آلهة {مِّن دُونِ الله} حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله كما يطاع الأرباب في أوامرهم ونواهيهم {والمسيح ابن مَرْيَمَ} عطف على {أحبارهم} أي اتخذوه رباً حيث جعلوه ابن الله {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا} يجوز الوقف عليه لأن ما بعده يصلح ابتداء يصلح وصفاً لواحداً {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} تنزيه له عن الإشراك {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى من الإشراق ليطفئه بنفخه. أجرى {ويأبى الله} مجرى {لاَ يُرِيدُ الله} ولذا وقع في مقابله {يُرِيدُونَ} وإلا فلا يقال: كرهت أو أبغضت إلا زيداً.
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمداً عليه السلام {بالهدى} بالقرآن {وَدِينِ الحق} الإسلام {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدين كُلِّهِ} على أهل الأديان كلهم، أو ليظهر دين الحق على كل دين {وَلَوْ كَرِهَ المشركون * يا أيها الذين آمنوا إنَّ كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس} استعار الأكل للأخذ {بالباطل} أي بالرشا في الأحكام {وَيَصُدُّونَ} سفلتهم {عَن سَبِيلِ الله} دينه {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان للدلالة على اجتماع خصلتين ذميمتين فيهم: أخذ الرشا وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الخير.
ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين، ويقرن بينهم وبين المرتشين من أهل الكتاب تغليظاً. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً، وما بلغ أن يزكي فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً» ولقد كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم كعبد الرحمن بن عوف وطلحة يقتنون الأموال ويتصرفون فيها وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية، لأن الإعراض اختيار للأفضل والاقتناء مباح لا يذم صاحبه {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} الضمير راجع إلى المعنى لأن كل واحد منهما دنانير ودراهم، فهو كقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9]. أو أريد الكنوز ولأموال، أو معناه ولا ينفقونها والذهب كما أن معنى قوله:
فإني وقيار بها لغريب ***
وقيار كذلك، وخصا بالذكر من بين سائر الأموال لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء. وذكر كنزهما دليل على ما سواهما {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.


ومعنى قوله {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أن النار تحمي عليها أي توقد، وإنما ذكر الفعل لأنه مسند إلى الجار والمجرور، أصله يوم تحمى النار عليها، فلما حذفت النار قيل {يحمى} لانتقاد الإسناد عن النار إلى عليها كما تقول (رفعت القصة إلى الأمير) فإن لم تذكر القصة قلت (رفع إلى الأمير) {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} وخصت هذه الأعضاء لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم، أو معناه يكوون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ} يقال لهم هذا ما كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وهو توبيخ {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي وبال المال الذي كنتم تكنزونه، أو وبال كونكم كانزين.
{إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} من غير زيادة، والمراد بيان أن أحكام الشرع تبتني على الشهور القمري المحسوبة بالأهلة دون الشمسية {فِي كتاب الله} فيما أثبته وأوجبه من حكمته أو في اللوح {يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ثلاثة سرد: ذو القعدة للقعود عن القتال، وذو الحجة للحج، والمحرم لتحريم القتال فيه، وواحد فرد وهو رجب لترجيب العرب إياه أي لتعظيمه {ذلك الدين القيم} أي الدين المستقيم لا ما يفعله أهل الجاهلية يعني أن تحريم الأربعة الأشهر هو الدين المستقيم ودين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب تمسكت به فكانوا يعظمونها ويحرمون القتال فيها حتى أحدثت النسيء فغيروا {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ} في الحرم أو في الاثني عشر {أَنفُسَكُمْ} بارتكاب المعاصي {وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً} حال من الفاعل أو المفعول {كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً} جميعاً {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي ناصر لهم حثهم على التقوى بضمان النصرة لأهلها {إِنَّمَا النسيء} بالهمزة مصدر نسأه إذا أخره، وهو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر. وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من بين شهور العام أربعة أشهر {زِيَادَةٌ فِي الكفر} أي هذا الفعل منهم زيادة في كفرهم {يُضَلُّ} كوفي غير أبي بكر {بِهِ الذين كَفَرُواْ} بالنسيء. والضمير في {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} للنسيء أي إذا أحلوا شهراً من الأشهر الحرم عاماً رجعوا فحرموه في العام القابل {لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين.
واللام تتعلق ب {يُحِلُّونَهُ} و{يحرمونه} أو ب {يحرمونه} فحسب وهو الظاهر {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} أي فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم الله من القتال، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أعمالهم} زين الشيطان لهم ذلك فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} حال اختيارهم الثبات على الباطل.
ا {ياأيها الذين ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا} اخرجوا {فِى سَبِيلِ الله اثاقلتم} تثاقلتم وهو أصله إلا أن التاء أدغمت في الثاء فصارت ثاء ساكنة، فدخلت ألف الوصل لئلا يبتدأ بالساكن أي تباطأتم {إِلَى الأرض} ضمن معنى الميل والإخلاد فعدي ب {إلى} أي ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه، أو ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم، وكان ذلك في غزوة تبوك استنفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم ذلك. وقيل: ماخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلاّ ورّي عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدة {أَرَضِيتُم بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} بدل الآخرة {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة} في جنب الآخر {إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ} إلى الحرب {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا} سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع، وأنه غني عنهم في نصرة دينه لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً. وقيل: الضمير في {وَلاَ تَضُرُّوهُ} للرسول عليه السلام لأن الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره ووعده كائن لا محالة {والله على كُلّ شَيْءٍ} من التبديل والتعذيب وغيرهما {قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد، فدل بقوله {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} أسند الإخراج إلى الكفار لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج فكأنهم أخرجوه {ثَانِيَ اثنين} أحد اثنين كقوله {ثالث ثلاثة} وهما رسول الله وأبو بكر، وانتصابه على الحال {إِذْ هُمَا} بدل من {إِذْ أَخْرَجَهُ} {فِي الغار} هو نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثاً فيه ثلاثاً {إِذْ يَقُولُ} بدل ثانٍ {لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} بالنصرة والحفظ. قيل: طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال عليه السلام:
«ما ظنك باثنين الله ثالثهما» وقيل: لما دخل الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعم أبصارهم» فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون قد أخذ الله بأبصارهم عنه وقالوا: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله وليس ذلك لسائر الصحابة {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ} ما ألقى في قلبه من الأمنة التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه {عَلَيْهِ} على النبي صلى الله عليه وسلم أو على أبي بكر لأنه كان يخاف وكان عليه السلام ساكن القلب {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} هم الملائكة صرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه، أو أيده بالملائكة يوم بدر والأحزاب وحنين {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ} أي دعوتهم إلى الكفر {السفلى وَكَلِمَةُ الله} دعوته إلى الإسلام {هِىَ} فصل {العليا} {وَكَلِمَةُ الله} بالنصب: يعقوب بالعطف، والرفع على الاستئناف أوجه إذ هي كانت ولم تزل عالية {والله عَزِيزٌ} يعز بنصره أهل كلمته {حَكِيمٌ} يذل أهل الشرك بحكمته.


{انفروا خِفَافًا} في النفور لنشاطكم له {وَثِقَالاً} عنه لمشقته عليكم، أو خفافاً لقلة عيالكم وثقالاً لكثرتها، أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه، أو ركباناً ومشاة أو شباباً وشيوخاً، أو مهازيل وسماناً، أو صحاحاً ومراضاً {وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} إيجاب للجهاد بهما إن إمكن، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة {فِي سَبِيلِ الله ذلكم} الجهاد {خَيْرٌ لَّكُمْ} من تركه {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} كون ذلك خيراً فبادروا إليه. ونزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين {لَوْ كَانَ عَرَضًا} هو ما عرض لك من منافع الدنيا، يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر أي لو كان ما دعوا إليه مغنماً {قَرِيبًا} سهل المأخذ {وَسَفَرًا قَاصِدًا} وسطاً مقارباً، والقاصد والقصد المعتدل {لاَّتَّبَعُوكَ} لوافقوك في الخروج {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} المسافة الشاطة الشاقة {وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}. من دلائل النبوة لأنه أخبر بما سيكون بعد القفول فقالوا كما أخبر، و{بالله} متعلق ب {سَيَحْلِفُونَ}، أو هو من جملة كلامهم، والقول مراد في الوجهين أي سيحلفون يعني المتخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، أو سيحلفون بالله يقولون لو استطعنا. وقوله {لخرجنا} سد مسد جوابي القسم و{لَوْ} جميعاً. ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة أو استطاعة الأبدان كأنهم تمارضوا {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} بدل من {سَيَحْلِفُونَ} أو حال منه أي مهلكين، والمعنى أنهم يهلكونها بالحلف الكاذب، أو حال من {لَخَرَجْنَا} أي لخرجنا معكم وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها على المسير في تلك الشقة {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون} فيما يقولون. {عَفَا الله عَنكَ} كناية عن الزلة لأن العفو رادف لها وهو من لطف العتاب بتصدير العفو في الخطاب، وفيه دلالة فضله على سائر الأنبياء عليهم السلام حيث لم يذكر مثله لسائر الأنبياء عليهم السلام {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} بيان لما كنى عنه بالعفو، ومعناه مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلّوا لك بعللهم وهلا استأنيت بالإذن! {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} يتبين لك الصادق في العذر من الكاذب فيه. وقيل: شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفدية من الأسارى، فعاتبه الله. وفيه دليل جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام لأنه عليه السلام إنما فعل ذلك بالاجتهاد، وإنما عوتب مع أن له ذلك لتركه الأفضل وهم يعاتبون على ترك الأفضل {لا يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر أَن يجاهدوا} ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا {بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ والله عَلِيمٌ بالمتقين} عدة لهم بأجزل الثواب.
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} يعني المنافقين وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً {وارتابت قُلُوبُهُمْ} شكوا في دينهم واضطربوا في عقيدتهم {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} يتحيرون لأن التردد ديدن المتحير كما أن الثبات ديدن المتبصر {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ} للخروج أو للجهاد {عُدَّةً} أهبة لأنهم كانوا مياسير، ولما كان {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج} معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو قيل: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} نهوضهم للخروج كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم {فَثَبَّطَهُمْ} فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث والتثبيط التوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه {وَقِيلَ اقعدوا} أي قال بعضهم لبعض، أو قاله الرسول عليه السلام غضباً عليهم، أو قاله الشيطان بالوسوسة {مَعَ القاعدين} هو ذم لهم وإلحاق بالنساء والصبيان والزمني الذين شأنهم القعود في البيوت.
{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ} بخروجهم معكم {إِلاَّ خَبَالاً} إلا فساداً وشراً، والاستثناء متصل لأن المعنى ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً، والاستثناء المنقطع أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه كقولك (ما زداوكم خيراً إلا خبالاً) والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الشيء فكان استثناء متصلاً لأن الخبال بعضه {ولأَوْضَعُواْ خلالكم} ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين. يقال: وضع البعير وضعاً إذا أسرع. وأوضعته أنا. والمعنى ولأوضعوا ركائبهم بينكم، والمراد الإسراع بالنمائم لأن الراكب أسرع من الماشي. وخط في المصحف {وَلاَ أوضعوا} بزيادة الألف لأن الفتحة كانت تكتب ألفاً قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي من تلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفاً وفتحها ألفاً أخرى ونحوه {أَوْ لاَ أذبحنه} [النمل: 21] {يَبْغُونَكُمُ} حال من الضمير في {أوضعوا} {إِلَى الفتنة} أي يطلبون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم {وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ} أي نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم {والله عَلِيمٌ بالظالمين} بالمنافقين {لَقَدِ ابتغوا الفتنة} بصد الناس أو بأن يفتكوا به عليه السلام ليلة العقبة، أو بالرجوع يوم أحد {مِن قَبْلُ} من قبل غزوة تبوك {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} ودبروا لك الحيل والمكايد ودوّروا الآراء في إبطال أمرك {حتى جَاءَ الحق} وهو تأييدك ونصرك {وَظَهَرَ أَمْرُ الله} وغلب دينه وعلا شرعه {وَهُمْ كارهون} أي على رغم منهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5